الجمعة، 24 أكتوبر 2014

ما بين الباطن والظاهر ..



".. وارحم تلك الأعيُن التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جَزَعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا.."
-          عن الصادق عليه السلام وهو يناجي ربه [١]
***

 وتعود مصيبة الطف ليتجدد الحزن في نفوسنا وتُرفَع رايات السواد في عوالمنا لنُشارك ملائكة السماء في إقامة مأتمٍ تتجلى مكانته باسم وارث حبيب الله تعالى الحسين ابن علي –عليه السلام-..
يقول الإمام الصادق عليه السلام : "إذا زرتم أبا عبدلله عليه السلام فالزموا الصمت إلا من خير، وإن ملائكة الليل والنهار من الحفظة تحضر الملائكة الذين بالحائر، فتصافحهم فلا يُجيبونها من شدة البكاء.. " ! [٢] 
فنحن في وسط تلك الفاجعة التي تبكي لها ملائكة السماء، وتبكي عليها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام كما يبكي عليها أشرف الخلق أجمعين الرسول الأعظم –صلى الله عليه وآله وسلم- ،، فما واجبنا نحن تجاه هذا كله ؟!
عن عبدالله بن يحيى قال: دخلنا مع علي إلى صفين فلما حاذى نينوى نادى صبرًا يا عبد الله، فقال: دخلتُ على رسول الله وعيناه تفيضان فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لعينيك تفيضان؟ أغضبك أحد؟ قال: "لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أن الحسين يُقتَل بشاطئ الفرات ..." [٣]
إن كان الكمال الإنساني بذاته يبكي لحادثة لم تقع بعد في إطار الزمان الدنيوي؛ فما دور الناقص الحقير بعد حدوثها ؟!
لم يكن الجزع محمودا في أمر من أمور الدنيا إلا على الإمام الحسين عليه السلام فهو من المستحبات المؤكدة! .. فذلك يعني أننا في أمرٍ لم تضطرب له قوانين الدنيا فحسب، وإنما "اقشعرّت له أظلة العرش.." !! 
من هو الإمام الحسين عليه السلام ؟ وما هي عاشوراء ؟!
عندما نريد أن نتحدث عن عِظَم المصاب فيجب أن نعرف عظمة صاحب هذا المصاب، فكل أمر يكتسب أهميته بما ترتبط به حقيقته، فإن كانت عاشوراء مرتبطة بالإمام الحسين –عليه السلام-، وإن كانت عقولنا قاصرة عن الوصول لمقام أئمة الهُدى عليهم السلام فهي قاصرة عن أي شيء ترتبط حقيقته بهم صلوات الله عليهم .. وبالتالي، فالمصيبة التي لن تصل إلى إدراك كُنهها أفهامنا؛ لن يصل لحقيقة المواساة فيها عزاءنا.. مهما بلغ !
يقول الشيخ الوحيد –حفظه الله- في وصفه لعاشوراء : " إنها قضية بلغت من أهميتها وعظمتها أن الإنسان مهما زاد تبحّره في المعقول والمنقول، لم يرجع من الغور فيها إلا بالإكبار والحيرة والذهول !".[٤] 

ç فهل فعلا يريد الإمام عليه السلام منا البكاء والجزع ولبس السواد وغيرها من مظاهر العزاء والمواساة؟ أم أراد تلك الروح النفيسة التي تولَد من رحم التطبيق لتعاليم الشريعة الغرّاء ..؟
كوننا نعيش في مرحلة الاختيار المحاطة بالابتلاءات فإن الوصول الحقيقي للشخصية الإسلامية المتكاملة يبدأ بالعمل واختيار الإطار الصوري الظاهري لها ليتبلور الباطن على إثره، فـمن لم يكن حليما فليتحلّم *، ومن خانته العين في الاستجابة عند سماع المصيبة فليتباكى !
فعن الصادق عليه السلام أن :" من أنشد في الحسين عليه السلام شعرا فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (ع) شعرا فتباكى فله الجنة." [٥] ..
فنجد أن التباكي مع عدمية جود العينين محمود.. بل ومطلوب أيضا لرجاء الوصول إلى البكاء الحقيقي الذي تُغَم من أجله الروح ويصبح بذلك تسبيحا قدسيا لخالق الكون سبحانه ..[٦] 
ومن جهة أخرى يقول السيد الخميني –قده- : ".. فليعلم [السالك] أن المناسك الصورية والعبادات القالبية ليست لحصول المَلَكات الكاملة الروحانية والحقائق القلبية فقط؛ بل هي إحدى ثمراتها.." [٧]
فتارةً تكون الشعائر الظاهرية طريقًا للوصول إلى المَلَكات الروحانية والأخلاق الحميدة، وتارةً تكون هي بذاتها نتيجة وثمرة وانعكاسًا جليًّا وواضحًا لِما هو في باطن الإنسان.. فمن ينكر أو يحارب شعائر الله تعالى بحجة الاهتمام بما –يظن هو- أنه الأهم والأوجب؛ فهو لم يصل بعد إلى قشور تلك المَلَكات الباطنية فضلًا عن التّخلّق بلبّها ..!
فمن تتسامى روحه حقيقةً بحب الإمام الحسين عليه السلام إلى درجة اندكاك نفسه في عالم المعشوق لا يرى بُدًّا من البكاء والعويل والجزع واللطم و.. إلخ من مظاهر الحزن والغم في مواساته لهذه الفاجعة، ولنا في تاريخ علمائنا الربّانيين الأفاضل في تعاملهم مع قضية عاشوراء أسوة حسنة.. وبكاء أئمتنا عليهم الصلاة والسلام، بل وبكاء الأنبياء والمرسلين عند ذكر تلك القضية دليلا وبرهانًا على ذلك لكل "من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ..
[ عن أبي محمد عليه السلام في حديث طويل يقول : .. "فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين سري عنه همه، وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين –عليه السلام- خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة*، فقال ذات يوم: يا إلهي مابالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصته.." ] [٨]
[ وقال الرضا عليه السلام عندما أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام ما يحدث للإمام الحسين ع : ".. فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك، وتوجع قلبه، وأقبل يبكي .."] [٩]
فدعونا لا نؤطر القضية في قيم باطنية ونغض الطرف عن إقامة العزاء بكل صوره بحجة ما ينسبونه إلى التنوير التوعوي الذي هو في حقيقته ظُلُمات في بحر لجّي من اللاوعي واللاإدراك !.. فـ" أهمية هذه النهضة المباركة، وموقعها المتميز من بين الأحداث، في خلودها وترتب الثمرات الجليلة عليها، وما أحدثته من هزة في المجتمع الإسلامي،..، كل ذلك إنما كان بلحاظ وجهها الدامي، وجانبها المفجع، وظلامتها الصارخة.[١٠] "..
ودعونا لا ننسى أصل المظلومية في حقيقة عاشوراء، وإذا كان السكوت عن أي مظلومية يُميتها؛ فأي ضجيج يجب أن يسري في قلوب المؤمنين لتُحفَظ وتُحيى المسيرة الحسينية المتمثلة بثار الله تعالى وابن ثاره ..؟!
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أخبر فاطمة عليها السلام بقتل ولدها الحسين عليه السلام ومايجري عليه من المحن، بكت فاطمة (ع) بكاءً شديدًا، وقالت: يا أبت! متى يكون ذلك؟ فقال:"في زمان خالٍ مني ومنكِ ومن علي"، فاشتد بكاؤها، وقالت:يا أبت! فمن يبكي عليه، ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-:" يا فاطمة! إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة، فإذا كان القيامة تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة. يا فاطمة! كل عين باكية يوم القيامة، إلا عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة."[١١] 

              
و قليل تُتلَف الأرواح في رزء الحسين عليه السلام ..[١٢]

***
[١] الكافي 4-582 باب فضل زيارة أبي عبدلله الحسين ع.
[٢] بحار الأنوار ج45 ص224.
[٣] بحار الأنوار ج44 ص247.
[٤]  الحق المبين : محاضرة مسؤولية المبلغ وعظمة عاشوراء.
[٥] كامل الزيارات.
[٦] عن أبا عبدالله عليه السلام: "نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح، وهمه لأمرنا عبادة، وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله." / بحار الأنوار ج٧٢ ص٨٣.
[٧] الآداب المعنوية للصلاة.
[٨] * البهر: تتابع النفس وانقطاعه كما يحصل بعد الإعياء والعدو الشديد / كمال الدين: 461
[٩]  الخصال :59
[١٠] السيد الحكيم حفظه الله في كتابه فاجعة الطف:6.
[١١] بحار الأنوار 44-293.
[١٢] قصيدة أحرم الحجاج للشيخ حسن الدمستاني.

* عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام :" إن لم تكن حليما فتحلّم فإنه قلّ من تشبّه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم". /نهج البلاغة ج٤ ص٤٧.