الأحد، 15 يوليو 2012

تأمّـلات **~



" أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومَن أوتي حظّه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل"
- عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) 

***~


[1]


عندما يكون الحديث عن ما يسمّى باليقين فكأننا ندخل في أحد دهاليز علوم "ماوراء الطبيعة" أو شيئاً من مجهول الملامح..  
  
  فكوننا نعيش في نشأة قابلة للشك من جميع الجوانب والجهات؛ لن نستطيع أن نتعمّق في يقينٍ لانلمس له أثراً بيننا.. أو.. هذا فقط مايقولونه !


                                                                              [2]


ونحن هنا لا نريد أن نتّبع منهجيّة السوفسطائيين في إنكار كل ماعجزوا عن إدراكه وقَصُر عن أفهامهم..

فكما قال سيد الأوصياء الإمام علي بن أبي طالب -عليه السلام-:" العجز عن درك الإدراك إدراك، والفحص عن سر ذات السر إشراك".. فمَن سعى وراء إدراك صحّي لحقائق الأمور عَرَف أولاً مواطن العجز والقصور في نفسه، ولزم بذلك حدّه.

فكل مالا تستطيع تحقيقه في معقولك أنت، تكمن فيه احتماليّة ولو بسيطة جداً في تملّكه لصورة حقيقيّة خارج محيط فهمك و "وعائك" ..! 
   
وإنه لمن مكابرات الإنسان أن تكون لديه سهولة في تغيير القواعد العامّة والأساسيّة بسبب فهمه الذي لا يستطيع الإحاطة بحقائقها.. فمتى استحكم الطغيان على الإنسان وادّعى لنفسه الكمال نُسِفت البديهيّات عن بُكرة أبيها أمام عينيه !



[3]


 يعرّف الموْلى النّراقي اليقين في كتابه (جامع السعادات) بأنه:" اعتقاد جازم مطابق للواقع" ..

وفي رحاب قول الله تعالى: { لقد كُنْت في غفْلةٍ من هذا فَكَشَفْنا عنْك غِطاءك فَبَصرُك اليوْم حديد } ..

نجد أن عمليّة كشف الغطاء عن الإنسان لرؤية الحقائق "بواقعيّتها" تكون بعد الموت وقبض الرّوح.. وعليه؛ فلا وجود لاعتقاد جازم نستطيع أن نطلق عليه بأنه مطابق للواقع.. لأننا ببساطة في هذه الدنيا وفي هذه اللحظة لا علم لنا بحقيقة هذا الواقع بسبب ذاك الغطاء السّاتر لبصائرنا، وبالتالي لا يقين نصل إليه ! .. \ و تلك هي أوْلى الفرضيّات التي يُمكن صياغتها حتى الآن .. 


[4]


{ لَقَدْ كُنْت في غَفْلةٍ مِن هذا .. }

بتأملٍ بسيط نستطيع أن نستلهم أن غطاء الإنسان الحاجب له ماهو إلّا غفلته التي اختار أن يُفني عمره داخل دائرتها محدودة المحيط.. وليس سوى ذلك ..، وأن الحقائق التي سيدركها بعد موته غير مقصورة على عالم الآخرة، وإنّما هي موجودة كائنة في الدنيا أمام قلبه والإنسان هو مَن يُشيح بناظريه عنها، ( وذلك لأن الغفلة إنّما يتصوّر فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، والغطاء يستلزم أمراَ وراءه وهو يغطيه ويستره، وعدم حدّة البصر إنّما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر )*

وبذلك [ربّما] يمكننا تفسير كلام أهل بيت العصمة عليهم السلام:" موتوا قبل أن تموتوا" ..
بالسعي لكشف غطاء الغفلة عنّا اختيارياً فالرؤية التكامليّة، وذلك قبل أن يباغتنا الإدراك الإجباري، فتكون وطأة الموت أشد وأعظم لعدم تهيئة النّفس لأي كمال يقيني .. وذلك هو موت الغفلة .. 


فمَن أٌجْبِر على الكمال من دون ملاءمة خصائصه له؛ كمَن أُلقي في العذاب الشّديد، فطالب المرحلة الابتدائيّة الذي يحاول جاهداً فهم مرحلته يجد العلوم الجامعيّة عصيّة الفهم، كبيرة على قلبه .. 


وبالتّالي ليس هنالك يوْمئذٍ لِمَنْ لا يقوى على مُجابهة درجة كمال الحقيقة إلّا أن يُردّ إلى "أسفل سافلين" ..! 


                                                                                [5]


{ وَكَذلك نُرِي إبْراهيم مَلَكوت السّماواتِ والأرْض ولِيَكونَ مِنَ المُوقِنين } [الأنعام:75]


يقول السيّد الطّباطبائي في الميزان من جملة تفسيره لهذه الآية:( أنّ الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به ... فكان [إبراهيم عليه السلام] إذا رأى شيئاً رأى انتسابه إلى الله وتكوينه وتدبيره بأمره قبل أن يرى نفسيّته وآثار نفسيّته ) .. 


وقد ورد عن إمام الموحّدين وأمير المؤمنين علي عليه السلام:" مارأيْتُ شيئاً إلّا ورأيتُ الله قبله وبعده وفوقه وتحته ومعه وفيه" ..


وماذلك إلّا كمال التوحيد الذي يُوْصِل العبد لدرجة الفناء في الله تعالى، وهذا لهو حق اليقين ..! 


وهذه الحالة عندما تتجلّى في نفس الإنسان وهو في الدنيا أشبه بما يُسمى في علم الرياضيات بـ" اللّامتناهي المعدود".. ! أي أنّك في تلك الحالة كائن مطلق محاط بزمن محدود ..! 
وكما وصفهم أمير المؤمنين في نهج البلاغة:" .. فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هُم فيها،، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحقّقت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنّهم يرون مالا يرى النّاس، ويسمعون مالا يسمعون ..." .


وفي قوله تعالى: { كلّا لَوْ تَعلمون عِلْم اليقين لتَرَوُنّ الجحيم }* دلالة على ذلك ..


 و إن كان كذلك؛ فإنّنا حينئذٍ نتحدّث عن قُدسيّة وجود .. وكما طُلِب من موسى -على نبيّنا وآله وعليه أفضل السلام- خلْع نعليه فإنّه بالواد المقدّس طُوى، يجب أن نخلع عنّا كل أنواع الدّنائس والنّجاسات في مسالك السّيْر الأنْفُسي لبلوغ هذه المقامات فـ{ إنّهُ لَقُرْآن كَريم، في كِتابٍ مكْنون، لا يَمسّه إلّا المُطَهّرون }*  


فلا يسكن القُدسيّ أرض الدناءة ولا يصل إليه مَن لم يسْع للتّطهير ..


ومَن يبْحث عن السّبيل لذلك فليتأمل مايتكرر في زيارات الرسول الأعظم والأئمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين حين نردد .. " أشهد أنّك عبدت الله مُخلصاً حتّى أتاك اليقين " .. 


***~

فابدأ بنفسك أولاً لتُفْتَح لك الأبواب كما فُتِحَت لِيوسف -عليه السلام- ...

***~




*تفسير الميزان- السيّد الطباطبائي- ج18- ص350
* التكاثر:6
*الواقعة: 77،78،79   
_________________________________